تجتاحنا لحظات من العصف الذهنى، تتدافع خلالها إلى رؤوسنا بعض الأسئلة، التى تبدو إجاباتها بديهية، لكنها تكشف حجم المفارقة التى تنطوى عليها، فعلى الرغم من بساطتها، إلا أننا قد نتوقف أمامها بلا حراك، ونعجز عن اقتفاء أثرها، فإذا بتلك الدهشة الوليدة تتشكل داخلنا، وتبدأ معها جولة من الصمت الوقور، استغراقاً فى البحث عن إجابات حقيقية، تُبدِد غيوم الارتباك المباغت وتَفطم صيحات الحيرة غير المتوقعة.
من هنا، وعلى جسور التامُل، ندرك كم يتوجب علينا الفرار من محيط المعطيات المتاحة ونظرية المقدمات والنتائج، فهناك تساؤلات تهز عرش المُسلَمات، فإذ بنا نتحسس دهاليز الاستغراق والإبحار فى زواياها، فعلينا آلا نتورط فى الاكتفاء بإجابات هلامية شاسعة، تُدخِلنا دائرة الإيهام بامتلاك اليقين، فلا ملاذ يروى شغف التساؤل سوى الارتجال اللحظى فى بهو التأمل، حتى تولد خيوط الحقيقة وتتجلى اللحظات الكاشفة !!
كما تظل - فى رأيي - الإجابات الجامعة المانعة بلغة المنطق "أمراً" مثيراً للسخرية والرثاء، فليس هناك ما هو نموذجى داخل "ساحات" التحليق، وإنما ترتبط أفكارنا المُتداعية بحجم التجربة، وكثيراً ما نحتاج إلى مناظرتها وتفنيدها، وصولاً إلى مُقاربة أوجه اختلافها، وعادةً ما تتعلق تساؤلاتنا الفضفاضة بإشكاليات روحية ومعنوية أكثر منها مادية .
هنا تتجلى قيمة كسر التابوهات والتفكير فيما وراء المتاح، بحيث تتولد حالة من العصف الوجدانى، نتبنى خلالها رؤى أكثر عمقاً، لنرى التفاصيل من حولنا بمنظور جديد، وربما نجحنا للمرة الأولى فى الوصول إلى منعطفات شعورية لم نَرتدها من قبل، وهى الغاية المُبتغاه من جلسات العصف الوجدانى والتأملى - إن جاز لى توصيفها - فهى جلسات استشفاء روحى وتنوير حسى وسط جمود مفردات الحياة ، كأحد وسائل الإلتفاف على منعصاتها وضرباتها التى قد تهز الثقة فى كثير من جمالياتها وأركانها.
لذا اسمحوا لى أن اخوض معكم أولى جولات التنظير التأملى، ثم دعونا نتحاور فى صمت، مُتلمسِين إجابات داخلية، تنبع من أعماقنا، وتتولد تحت مجهر التحديق، فإذا بها تستقر وتطفو على سطح قناعاتنا، وتُشكِل بالتدريج عمقاً معنوياً جديداً يترسب به اليقين.. لنبدأ معاً جولتنا الأولى ..!!
تُرى ... ماهى السعادة ؟؟ كيف نصنعها ؟؟ هل هى منحة وعَطية أم أجر وجزاء ؟؟ أيمكننا استدراجها إلى منعطفات الحياة أم إنها عصية تأتينا بإرادتها وليس برغباتنا ؟؟ أيمكننا اقتناءها وحراستها داخل قنينة الروح، فنغويها بالانتظار وعدم المغادرة، أم إنها طليقة لن تقبل الأسر حتى وإن كانت مُنعَمة بين أشياءنا ؟؟
هكذا تداعت على رأسى التساؤلات، حين ارتطمت عيناى بأحدى العبارات تقول :" (أنا على ما يرام، لكننى لست سعيداً ....!!) عن نفسى استوقفتنى العبارة لشدة تنافرها، فهى تدحض أركانها بشدة، وبعد أن استغرقت فى تشريحها، أدركت عدم وجود ضرورة أو إقتران شرطى بين استقرار نهر الحياة وديمومة السعادة أو حتى إطلالتها علينا من شُرفاتها الماسية، كما أنه لا يوجد ترتيب منطقى يجعل أحدهما سبباً والأخر نتيجة، وليس هناك تتابع منطقى يهدينا السبيل إلى ذلك القبس الألهى المدعو "سعادة" الذى يشرق على حياتنا من منفذ خاص جداً وغامض جداً.
فى تلك اللحظة أطلت من رأسى الإجابات تخبرنى بأن السعادة مجرد (عابر سبيل)، لا يمكننا انتظاره أو التكهن بموعد مروره، أو حتى الاستعداد لاستقباله، وكأنه النسيم الذى يغمر الغصون بمواقيت إلهية، فيبتهج الكون بمروره الخاطف، الذى يُحسِن ترك الأثر.. فالسعادة تمتلك بوصلة شديدة الحساسية، ترشدها إلى الأبواب الصحيحة، التى تطرقها فى اطمئنان وثقة، فلا وقت لديها للمتلكئين والمتخبطين، الذين يُماطِلون فى اقتناصها من الدنيا، كما أنها تهوى المغامرين الذين لا تنفذ حيلهم فى التعاطى مع مُنغصات الحياة والالتفاف عليها، فكم تستهويها الإرادة وبريق الإصرار والعزائم الشاهقة التى لا تنحنى ولا تخور.
تحسبها من فرط دلالها، تلك الأميرة الحسناء، التى وجب الركض خلفها، فيزداد خيلائها وتتنامى نرجسيتها، لكنها فى حقيقة الأمر "سندريلا"، التى تظل قيد انتظار من يبحث عنها ويقطع سويعات الزمن لإيجادها ، ولا يرتضى سواها .
علينا أن نُغازِل السعادة .. نُطرِيها ونمتدحها.. نُغريها ونَغويها.. نشتهيها ونلتاع بها.. فكلما عشقناها، عشقتنا.. وكلما اقتربنا منها، صادقتنا.. وكلما ألِفناها، قررت آلا تهجرنا، فهى نبتة نَهِمَة، تستحوذ على أصحابها، ويروق لها مطالبتهم بالاهتمام الدائم والرعاية الجمة، كما يحلو لها التَمنُع على المتغافلين عن سحرها، فلا تعود سوى لمن اجتازوا اختباراتها وتأكدت مطابقتهم لمواصفات رضاها، فهى تأبى الذبول فى قارورات المياه الراكدة، وتبحث عن قطيعات السكر الذائبة فى قطرات ترويها بعناية، فإذا بها تُغدق ظلالاً لا تتبدد ولا تغرب، فكونوا من رُعاة السعادة، ولا تنتظروا سخائها دون حفظ قواعدها واعتناق أركانها، فهى تجتذب من يجتذبها وتهجر من يهجرها..!!